زيارة قبر نبي الله هود عليه السلام
المقدمة
إن الحمد لله ، نحمده ونستعينه ، ونستغفره ونستهديه ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ، وسيئات أعمالنا ، من يهـده الله فلا مُضِّـل له ، ومن يُضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبـده ورسوله ، أرسله بالهـدى ودين الحق { ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون } ، { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتـم مسلمون } ، { يـا أيها النـاس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفـس واحــدة وخـلق منها زوجها وبث منهما رجـالاً كثيراً ونسـاء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا } { يا أيها الذين آمنـوا اتقـوا الله وقولوا قولاً سديداً ، يصلح الله لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبـكم ومن يطع الله ورسـوله فقد فـاز فوزاً عظيماً} .
أما بعــد :
فإن أصدق الحديث كتاب الله ، وخير الهدى هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها ، وكل محدثـة بدعـة ، وكل بدعـة ضلالة ، وكل ضلالة في النار ، ثم أما بعد ، فإن الله أرسل الرسل ليخرجوا الناس من الظلمات إلى النور ، ليخرجوهم من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد سبحانه وتعالى ، ليكون الدين كله لله.
ولقد عملت الشيـاطين على إجتيـالهم عن دينهـم، وصدهم عما جاء به الرسل ، وإعادتهم للظلمات ، وإلى الشرك والضـلال والانحراف ، وبعد بعثة محمد صلى الله عليه وسلم لا نبوة ولا رسالة ، فهو خاتم الأنبياء، ولكن الله تعهد بحفظ دينه وبأن يبقى طائفة من أمة محمد صلى الله عليه وسلم الحق ، لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم ، حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك ، وأخبر الرسول صلى الله عليه وسلم بأن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها، وما ذاك إلا لأن عوامل الهدم كثيرة ، ودعاة الضلال على كل سبيل ، ومن أشد الداعين إلى الضلال والانحراف المتصوفة القبورية، الذين غيروا الدين، ونقضوا العقيدة ، وشوهوا وجـه الإسلام بما نشروا في الأمـة من وثنية وخرافة وجهل وضلال.
ولدينـا في حضرموت – إحدى محافظات الجمهورية اليمنية – نصيب وافر من القبورية ، وكم هائل من البدع والخرافات ، ومن تلك الخرافات خرافة قبر هـود في الموضع المعروف شرقي وادي حضرموت ، ومن تلك البدع ما تحفل به زيارة ذلك القبـر المزعوم من طقوس عبادية ، ومظاهر وثنيـة ، وفنون من اللهـو المحرم ، وغير ذلك من المخالفات.
وفي هذا البحث المتواضع ، حاولت أن أثبت عدم صحة وجود القبر في ذلك الموضع ، وأن أكشف النقاب عما تحتوي عليه تلك الزيارة من بدع وضلالات ، ودجل وخرافات ، وبين ذلك أوضحت – بشكل مختصـر – هـدي الإسلام في التعامل مع القبور ، وهـدية في زيارة القبور، وهدي اليهود والنصارى في ذلك ، وأن تلك الزيارة وما شاكلها ، إنما تسير على هَدي اليهود والنصارى وليس على هَدي المسلمين ، وقد قسَّمْت البحث إلى مقدمة وأربعة أبواب وخاتمة ، وقسَّمْت الأبواب إلى فصول ، والفصول إلى مباحث ، والذي أحب التنبيه عليه في هذه المقدمة أن الباعث على كتابة هـذا البحث ، هو تجديـد وإحياء هذه الزيارة من نواح مختلفة ، ومحاولة دُعاتها تأصيلها ، وإثبات أنها حق ، وتبرير ما فيها من المخالفات ، وإلباسها لباس السنة ، والاستدلال عليها بالآية والحديث ، وإيهام القارئ البسيط أن كل ما فيها حق ، وكل ما قيل عنها من قِـبَلْ مروجيها حق، وتأويل المفتريات التي اخترعها من لا خلاق له بأنها حق ، كما فعل سالم الشاطري في رسالته التي كتب عليها " زيارة نبي الله هـود – عليه السلام – في ميزان الشرع " " مع العلامة سالم بن عبد الله الشاطري ".
وهي رسالة حول زيارة نبي الله هود ، مفعمة بالأدلة وتوضيح شبه تثار حولها، وكما فعل فهمي عبيدون في رسالته " الدر المنضود في أخبار قبـر وزيـارة نبي الله هود " التي طبعت عام 1419 هـ. وكذلك الرسالة التي طبعت قديماً فصورت ووزعت هذه الأيام والمسماة " بذل المجهود في خدمة ضريح نبي الله هـود عليـه السلام "
وبعد ما شاهدته بعيني أثناء زيارتي لموضع القبر مؤخراً ، وما رأيت من جهود كبيرة لعمارة الموقع وبناء المزيد من المرافق والمساكن هناك ، وما رأيت كذلك من طقوس للزيارة عبر أشرطة ( الفيديو ) ، كل ذلك حملني على إخراج هذا البحث لبيان الحق وتفندي الباطل على مروجي البدعة ودعاة الخرافة.
ولقد حاولت جاهداً الإنصاف والأمانة في النقل ، حتى أني أنقل من كتبهم كما وجدت ، ولو مع الأخطاء المطبعية أو غيرها ، حتى لا أقع في اجتهاد قد أخطئ فيه ، وحتى لا أفتح باباً لمنتقد يطعن في أمانتي في النقل.
وليعلم القارئ الكريم أن ما ذكر عن الزيارة مستمر إلى اليوم وليس حديثاً عن أمر قد انتهى، ومن أحب التأكد فليحضر ليرى بعينيه، أو يشاهد شريط فيديو تلك الزيارة، ليشاهد بعض ما فيها، أما بعض الأمور فهم لا يصورونها خشية الانتقاد.
وقد سميت هذه الدراسة " الكشف المبين عن حقيقة القبوريين ، زيارة هود عليه السلام وما فيها من ضلالات ومنكرات ".
أسأل الله أن يكون هذا العمل خالصاً لوجهه ، وأن يؤدي الغرض الذي كتب من أجله أنه سميع مجيب.
الباب الأول
بطلان ما استدلـوا به على وجود القبر في ذلك المكان
الفصل الأول
بطلان ما استدلوا به من النقل
المبحث الأول :
إثبات أن الله لم يحـدد موضع ذلك القبـر ولا غيره من قبور الأنبياء وعلة ذلك:
هذا القرآن أمامنا محفوظ معلوم، لم نجد فيه أي إشارة إلى ذكر أي قبر من قبور الأنبياء والمرسلين مع تكرار قصصهم وسرد أخبارهم مع أقوامهم.
وما ذاك إلا أن القرآن ذكر لنا ما فيه من العبرة والفائدة، وما يمكن أن نقتدي بهم فيه، أو نتعلم منه الثبات والصبر على مواجهة من ندعوهم إلى الإسلام. كما ذكر من أحوالهم ما يكون تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتثبيتاً على ما يواجه من صدود وجحود من قومه.
قال تعالى { وكلاً نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك وجاءك في هذه الحق وموعظة وذكرى للمؤمنين } ( ) ، وقال : { لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب ما كان حديثاً يفترى ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شيء وهدىً ورحمة للمؤمنين } ( ) ولم يتعرض لتفاصيل من حياتهم لا تؤدي ذلك الغرض ، مثل مواطن بعض منهم وحياتهم وغير ذلك مما لا يترتب عليه فائدة.
إذن فبيان القرآن لحكمة ، وسكوته عما سكت عنه لحكمة، واسمع للإمام ابن جرير الطبري – رحمه الله – وهو يتحدث عن الأحقاف ومنازل عاد قوم هود التي يدخل من ضمنها القبر ، حيث يقول بعد أن ذكر اختلاف المفسرين في موضع الأحقاف، قال رحمه الله تعالى : " وجائز أن يكون ذلك جبلاً بالشام ، وجائز أن يكون وادياً بين عمان وحضرموت ، وجائز أن يكون في الشحر، وليس العلم به أداء فرض ولا في الجهل به تضييع واجب " انتهى المراد منه. ( )
فالقرآن ذكر موطن عاد ، وأنه بالأحقاف ، وأقرب الأقوال أن الأحقاف بحضرموت ، ولكن لا يلزم أن يكون القبر هنالك ، لاحتمال أن هوداً رحل بمن معه من المؤمنين بعد أن أرسل الله الريح العقيم فدمرت ديار عاد. فإن لم يرحل فلا يمكن أن نحدد موضع قبره إلا بنص إما من القرآن – ولقد علمنا أن لا نص في القرآن يشير إلى ذلك فضلاً عن أن يحدده – وإما من السُـنة.
المبحث الثاني :
بطلان ما نسب إلى السنة من ذكر ذلك القبر في موضعه المعروف :
وكما أن القرآن لم يشر إلى موضع قبر هـود عليه السلام ، فإن السنة – كذلك – لم يثبت فيها ما يشير إلى ذلك ، وقد ورد حديث عن علي رضي الله عنه يفيد أن القبر في حضرموت ، غير أن ذلك الحديث ضعيف جداً ، وبعض ألفاظه تشعر أنه من حكايات الإخباريين التي تظهر عليها آثار الكذب والوضع ، وهو مع ضعفه لا يفيد أنه في الموضع المعروف اليوم ، وإنما ينفي ذلك وإليك البيان:
الحديث المذكور روي عن علي رضي الله عنه من ثلاث طرق:
1- الطريق الأولى: عن محمد بن إسحاق المطلبي ( صاحب السيرة ) عن محمد بن عبد الله بن أبي سعيد الخزاعي عن أبي الطفيل عامر بن وائلة، قال: سمعت علي بن أبي طالب – عليه السلام – يقول لرجل من حضرموت : " هل رأيت كثيباً أحمر يخالطه مدرة حمراء ، ذا أراك وسدر كثير بناحية كذا وكذا من أرض حضرموت ، هل رأيته ؟ قال : نعم يا أمير المؤمنين ، والله إنك لتنعته نعت رجل قد رآه ، قال: لا، ولكن حدثت عنه ، قال الحضرمي: وما شأنه يا أمير المؤمنين ؟ قال: فيه قبر هود ( صلوات الله عليه ) . رواه البخاري في تاريخه ( )، والحاكم ( ) ، والطبري في التفسير( ) كلهم من طريق سلمة بن الفضل عن محمد بن إسحاق عن محمد بن عبد الله بن أبي سعيد الخزاعي عن أبي الطفيل عن علي – رضي الله عنه -.
وهذا سند ضعيف ، لأن فيه سلمة بن الفضل الأبرش ، قال في التقريب: " صدوق كثير الخطأ " ، فهو لا يحتج به بمفرده ، وفيه كذل ( محمد بن عبد الله بن أبي سعيد الخزاعي ) مجهول ( لم يرو عنه غير محمد بن إسحاق ) قال ذلك ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل عن أبيه.( ) ، ومثل هذا لا يصلح حتى في الشواهد كما هو معلوم في موضعه ، وأما محمد بن إسحاق فقد صرح بالتحديث عند البخاري في التاريخ ، وعلى ذلك فالحديث ضعيف ، ثم أن علياً – رضي الله عنه – لم يسم من حدثه بذلك، واحتمال أن محدثه أحد الوافدين من تلك البلاد ، ثم أن وصف الموقع لا ينطبق على موضع القبر المشهور اليوم ، هذا لو صح السند إلى علي - رضي الله عنه – وقد علمت أنه لم يصح.
2- الطريق الثانية: ذكرها في معجم البلدان، وعنه الأكوع في البلدان اليمانية عند ياقوت الحموي( ) ، قال: بعد أن رجح أن الأحقاف بأرض اليمن " ويشهد بصحة ذلك ما رواه أبو المنذر هشام بن محمد عن أبي يحي السجستاني عن مرة بن عمر الأيلي عن الأصبغ بن نباته قال: " إنا لجلوس عند علي بن أبي طالب ذات يوم في خلافة أبي بكر بن الصديق – رضي الله عنه – فذكر قصة طويلة – حتى قال: ثم أن علياً سأله ذات يوم ونحن مجتمعون للحديث : أعالم أنت بحضرموت ؟ قال: إذا جهلتها لم أعرف غيرها، قال له علي – رضي الله عنه – أتعرف الأحقاف؟ قال الرجل: كأنك تسأل عن قبر هود – عليه السلام – قال علي – رضي الله عنه - : لله درك ما أخطأت ! قال: نعم ، خرجت وأنا في عنفوان شبيبتي في أغيلمة من الحي ، ونحن نريد أن نأتي قبره لبعد صيته فينا ، وكثرة ذكره منا ، فسرنا في بلاد الأحقاف أياماً ومعنا رجل قد عرف الموضع فانتهينا إلى كثيب أحمر ، فيه كهوف كثيرة ، فمضى بنا الرجل إلى كهف منها فدخلناه ، فأمعنا فيه طويلاً، فانتهينا إلى حجرين قد أطبق أحدهما دون الآخر، وفيه خلل يدخل منه الرجل النحيف متجانفاً، فدخلته فرأيت رجلاً على سرير شديد الأدمة، طويل الوجه ، كث اللحية ، وقد يبس على سريره فإذا مسست شيئاً من بدنه أصبته صلباً لم يتغير، ورأيت عند رأسه كتاباً بالعربية : أنا هود النبي الذي أسفت على عاد بكفرها ، وما كان لأمر الله من مرد، فقال لنا علي بن أبي طالب – رضي الله عنه - : كذلك سمعته من أبي القاسم صلى الله عليه وسلم، ورواه ابن عساكر كما في نثر الدر المكنون. وهذا حديث باطل أيضاً في سنده ومتنه ، فأول راوٍ فيه هشام بن محمد بن السائب الكلبي أبو المنذر ، قال فيه أحمد بن حنبل: إنما كان صاحب سمر ونسب ، ما ظننت أحداً يحدث عنه، وقال الدار قطني وغيره : متروك. وقال ابن عساكر: " رافضي ليس بثقة " . وقال البلاذري في تاريخه: " هشام لا يوثق به " ( )
وفيه كذلك أصبغ بن نباتة قال ابن حجر في التقريب: ( متروك رافضي ).
وأما من ناحية متنه ، فإنه ذكر أنه وجد عند رأسه كتاباً بالعربية ، وهذا يتناسب مع حكايات الأسمار والأخبار التي تساق لتسلية وتزيين المجالس ، وإلا فمتى بدأت الكتابة العربية حتى يكتبها هود ويضعها عند رأسه؟!
ثم مع بطلان السند وظهور علامات الوضع على المتن ، فإن المتن كذلك لا ينطبق على الموضع ، فالموضع واد مثل أي واد من وديان حضرموت، والقبر في سفح الجبل الذي يطل على ذلك الوادي ، وليس هناك كثيب ولا كهوف. ( ) ومثل هذه الملاحظات قد لاحظها رجال قبلي.
فهذا محمد عبد القادر بامطرف يقول في ملاحظاته على الهمداني: " وقد زرت هذا القبر المزعوم سنة 1954م فألفيته عبارة عن كوم مستطيل من الحجارة الصغيرة طوله اثنان وتسعون قدماً ، وارتفاعه في بعض جوانبه أربعة أقدام ، ويقع في سفح جبل إلى الشرق من بئر برهوت ( نسبة إلى البراهيت الحميريين ) فلا كثيب أحمر ، ولا كهف مشرف مما ذكره الأصبغ بن نباتة ونقله عنه الهمداني" ( ).
وقبل بامطرف قد لاحظ مثل ذلك أحد مشاهير مؤرخي حضرموت السيد علوي بن طاهر ، قال في تذكير الناس : " وقال سيدي علوي بن طاهر الحداد : سألت سيدي أحمد – رضي الله عنه – هل عند نبي الله هود عليه السلام غار أحمر كما ذكر في رواية عن سيدنا علي بن أبي طالب ( كرم الله وجهه ) ؟ وقلت له: إن أخي عبد الله يقول : إني أظن الغار الأحمر الذي جاء في الرواية المذكورة هو الغار الذي عند نبي الله هادون عليه السلام بهدون في دوعن.
فقال سيدي أحمد: وأنا الذي عندي هو هذا، وقد ذكر القزويني في تلك الرواية – وعنده الوجرات – وهي الأجرات المعروفة اليوم، وقد يكون نبي الله هدون هو المعني في تلك الرواية، وقد أشار إلى شيء من ذلك الشيخ عبد العزيز الدباغ في الإبريز" ( ).
3- الطريق الثالثة: ما ذكره عبيدون عن الكسائي في كتابه ( مبتدأ الخلق )، قال كعب الأحبار: " كنت في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، في خلافة عثمان رضي الله عنه ، فإذا رجل رمقه الناس لطوله! قال: " أيكم ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قالوا: أي ابن عمه تريده ؟ قال: ذلك الذي آمن به صغيراً ، فأومئوا إلى علي بن أبي طالب ( كرم الله وجهه ) فقال: من الرجل؟ قال: من بلاد حضرموت، قال: تعرف الأراك والسدرة التي يقطر من أوراقها ماء مثل السدم؟ فقال الرجل: كأنك سألتني عن قبر هود ( عليه السلام ) فقال: عنه سألتك فحدثني، فقال: مضيت في أيام شبابي بعشرة من فتيان الحي نريد قبره ( عليه السلام ) قال: فسرنا إلى جبل شامخ فيه كهوف ومعنا رجل عارف بقبره ، حتى دخلنا كهفاً ، فإذا نحن بحجرين وقد أطبق أحدهما على الآخر، وبينهما فرجة يدخل فيها الرجل النحيف، وكنت أنا أنحفهم ، فدخلت بين الحجرين ، فسرت حتى صرت إلى فضاء واسع، وإذا أنا بسرير عليه ميت ، وعليه أكفان كأنها الهباء، فمسست بدنه فكان صلباً، وإذا هو كبير العينين ، مقرون الحاجبين واسع الجبهة، أسيل الخد، طويل اللحية، وإذا عند رأسه حجر مكتوب عليه: " لا إله إلا الله محمد رسول الله " { وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحساناً } أنا هود بن الخلود بن عاد رسول الله إلى عاد بن عوص بن سام بن نوح ، جئتهم بالرسالة ، وبقيت فيهم مدة عمري ، فكذبوني فأخذهم الله بالريح العقيم ، فلم يبقِ منهم أحداً ، وسيجيء بعد ذلك صالح بن كالوخ ، فيكذبه قومه ، فتأخذهم الصيحة ، فقال سيدنا على – رضي الله عنه - : صدقت هذا قبر النبي هود ( على نبينا وعليه أفضل الصلاة والسلام). ( )
وقد ذكر هذه الرواية العيدروس في " بذل المجهود " ( ) مع اختلاف يسير ، وفيه أن السرير من ذهب، وأن الكتابة ( بخط السند والهند ) ، قلت وهذه الطريق لم أطلع على سندها ، ولكن الوضع لائح على متنها، فهناك سرير من ذهب ، ولوح مكتوب فيه شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وآية من سورة الإسراء :{ وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحساناً } ، أفلا يفكر من صاغ تلك الحكاية متى أنزلت هذه الآية ؟؟ وهناك شق صغير يفضي إلى فضاء واسع، فهل يمكن أن نجرب ذلك ونحفر وراء تلك الصخرات حتى نصل إلى ذلك الفضاء الواسع، ويزول ما يخالجنا من شك.
هذا هو الحديث الذي عول عليه بعض المفسرين ، وبعض المؤرخين، وهو ضعيف تالف، لا يصح اعتماده ولا الاحتجاج به كما رأيت، وهو على ما فيه من الوهن لا ينطبق على الموضع المعروف اليوم، وهناك حكاية أخرى نقلها عبيدون عن الشلّي في المشرع قال:
( ومن عجيب ما جاء في أيام الصديق - رضي الله عنه - : أنه حصل مطر عظيم بحضرموت ، فأبرز السيل باباً مغلوقاً ، فهاب الناس ، وظنوه كنزاً، وكتبوا إلى الصديق – رضي الله عنه – فأرسل أمناء ففتحوا الباب فنفذ بهم إلى مغارة ، فإذا فيها سرير عليه رجل ميت عليه حلة منسوجة من الذهب، وفي يده لوح مكتوب فيه هذان البيتان:
إذا خان الأميـر وكاتـبـاه .............. وقاضي الأرض داهـن في القضاء
فـويـل ثم ويـل ثم ويـل .............. لقاضي الأرض من قاضي السماء
وفي يده خاتم مكتوب فيه ( ما وجدنا لأكثرهم من عهد ) ، وعند رأسه مكتوب:
يا لائمي في جـرهم جاهـلاً .............. عذري مكتوب على خاتمي
وسيف أخضر مكتوب عليه: " هذا سيف هـود بن عـاد بن إرم " ( ) ، قلت: وهـذه الحكاية لا ندري عن سندها شيئاً ، والشلي يذكر في كتابه ذلك ما لا يحتمله العقل ولا يقره الشرع ، فلا يجوز الاعتماد على نقله، ولا إثبات حكم شرعي بروايته ، أضف إلى ذلك الصنعة الظاهرة على الحكاية.
ومع ذلك فهي لا تحدد من هو ذلك الرجل : وإن كان البيت المذكور( يا لائمي في جرهم ) يشير إلى أنه رجل له علاقة بجرهم التي كانت بعد عاد بقرون طويلة، وهكذا السيف والكتابة التي عليه ، كل ذلك يجعلنا نقطع بأن الحكاية لا تمت إلى قبر هود بسبب مطلقاً ، ولكن عادة هؤلاء القوم أن يكثروا من حشد ما يقدرون عليه من شبهات ، حتى إذا كثرت وجد الإنسان البسيط نفسه مضطراً لتصديقها دون تأمل فيها.
وخلاصة الكلام أن ما استدل به مروجو خرافة قبر هود ، لا يثبت سنداً ، ولا يستقيم نظراً ، ويدفع بعضه بعضاً في محتواه.
المبحث الثالث :
مناقشـة ما نقلوه عن المفسرين في ذلك:
لقد تكلم المفسرون عندما فسروا الآيات التي ذكرت قصة هود في ( سورة هود ) وفي (سورة الأحقاف ) عن موطن قبيلة عاد التي أرسل إليها هود عليه السلام، ولم يتعرضوا لذكر القبر على سبيل البحث الذي يجدد موضعه مطلقاً، وإنما كان الحديث عن مواطن عاد والأحقاف ، وذكروا روايات مختلفة ، أكثرها تشير إلى حضرموت عموماً أو إلى الشحر أو إلى المهرة أو إلى ما بين عُمان والمهرة، وساق ابن جرير في تفسير سورة هود أثر على الذي تكلمنا عليه سابقاً ، وعنه نقله بعض المفسرين المتأخرين، ومنهم ابن كثير ، وعلى الرغم من ذلك فقد سئل الشاطري هـذا السؤال: ما هي الدلائل والأدلة التي تشير إلى أن قبر هود عليه السلام هو الذي يزار الآن ؟ فأجاب:
أولاً: النقول التاريخية المذكورة سابقاً ، ثانياً: كتب التفسير فقد أشارت إلى أنه بوادي حضرموت ، قرب برهوت والمهرة، ووصفته بصفته المعروفة الآن، وإليك بعض النقول:
[ وقبـل أن نـنـقـل إليك أخي القارئ الحبيب ما ذكر من نقـول: نـلـفت نظرك إلى ما انطوت عليه مقدمة الجواب ، فهو يقول: " إنه بوادي حضرموت " ، " وأنه قرب برهوت والمهرة " ، وأن تلك النقول " وصفته بصفته المعروفـة الآن " ، وبعد أن تحفظ هذه الفقرات الثلاث من مقدمة الجواب وتحاول فهمهـا واستحضارها ، تعال معي لنرى تلك النقول ].
1- تفسير ابن كثير ج4 ( سـورة الأحقاف ) قال: قال الإمام علي بن أبي طالب : الأحقاف واد بحضرموت ، يدعى برهوت ، تلقى فيه أرواح الكفار.
نحن هنا لا نضايق الرجل ولا نطلب بسند هـذا القول ، مع علمنا أن العلماء يضعفون رواية أن أرواح الكفار في بئر برهوت ، وربما حكموا عليها بالوضع، ولكننا نقول له : أين ذكر القبر في هذا النقل ؟ .
2- ثم قال : " قال البغوي في تفسيره ج 5 ( سورة الأحقاف ) عند آية :{ واذكر أخـا عـاد إذ أنـذر قـومه بالأحقـاف } قال ابن عباس: " الأحقاف واد بين عُمان والمهرة "، وقال مقاتل: " كانت منازل عاد باليمن بحضرموت بموضع يقال له المهرة" ، أين ذكر وادي حضرموت ؟ وأيـن برهوت ؟ وأين ذكر القبر ؟! ، ثم قول ابن عباس إنه واد بين عُمان والمهرة، هل يصح أن نقول: إنه موضع القبر المعروف ؟ ، كم من مئات الأميـال بين ذلك الموضع وبين ما يصح أن نسميه بين عُمان والمهرة ؟ إن موضع القبر غرب المهرة بمسافة طويلة ، وما ذكره ابن عباس شرقها، كيف أجاز لنفسه أن يغالط الناس في محافظة كاملة من محافظات الجمهورية اليمنية تمتد مئات الأميال ؟ أليس على قول ابن عباس لو صح عنه إن أهل ظفار أحق أن يدعوه ، وهم قد ادعوه فعلاً ، ولديهم ضريح هناك يقال له ضريح هود وقد زاره ابن بطوطه وذكره في رحلته.
وهكذا قول مقاتل إنه " بموضع يقال له المهرة " هل يدل على موضع القبر ؟ ، لا طبعاً ! لا يدل على شيء من ذلك، ولكن ظنه أن الناس لا يعقلون هو الذي حمله على هذه المغالطة.
3- ثم قال: " قال الرازي في تفسيره ج 14 عند نفس الآية : قال ابن عباس " الأحقاف واد بين عُمان والمهرة " ونحن نكتفي بما ذكرناه عند النقل عن ابن كثير ، لأن هذا القول المنقول عن ابن عباس هو نفسه الذي ذكره ابن كثير.
هذا ما ذكره الشاطري ، وقد ذكر بعضه عبيدون في ( الدر المنضود في أخبار قبر وزيارة النبي هود ) وزاد أقوالاً لمفسرين آخرين فقال ( ) : أقوال العلماء في ذلك:
الإمام ابن كثير ( ت 774 هـ ) ، ثم نقل عنه أثر علي – رضي الله عنه – من طريق أبي الطفيل ، وقد تقدم الكلام عليه وأنه لا يثبت سنده ، ولا ينطبق متنه على القبر المزعوم، قال: ورواه ابن جرير ، قلت: نعم ، هو كذلك ، وقد رواه من طريق محمد بن حميد الذي وصف بالكذب من كثير من علماء الجرح والتعديل. وسبق الكلام على بقية السنـد.
4- ثم قال ( ) : الإمام السيوطي:
ذكر في تفسيره الدر المنثور : وأخرج ابن سعيد – كذا ولعله ابن سعد – وابن عساكر عن إسحاق قال: " ما يُعلم قبر نبي من الأنبيـاء إلا ثلاثة ، قبر إسماعيل تحت الميزاب بين الركن والبيت ، وقبر هود ، فإنه في حقف تحت جبل من جبال اليمن ، وموضعه أشد الأرض حراً ، وقبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن هذه القبور محقـقـة ".
وقد ذكر الإمام الواقدي ( المتوفى سنة 207 هـ ) هذه الرواية نفسها ، قلت: ابن سعد من أخص أصحاب الواقدي ، ومادام الواقدي قد رواها فالغالب أن ابن سعد وكذلك ابن عساكر قد روياها من طريقه، وهو شديد الضعف غير معتبر الرواية، قال عنه ابن حجر في التـقـريب: " متروك مع سعة علمه " ، وعلى ذلك فلا قيمة لهذه الرواية ، ومع ذلك فلفظ هذا الأثر لا ينطبق على موقع القبر المزعوم، لأن الحقف هو جبل الرمل أو ما استطال من الرمل مع اعوجاج، ولا أثر مطلقاً للأحقاف بهذا المعنى في ذلك الوادي الذي يزعم أنه موضع القبر.
5- ثم قال في نفس الصفحة: الإمام الخازن:
وفي لباب التأويل للخازن : فلما أهلك الله عاداً ارتحل هود ومن معه من المؤمنين من أرضهم بالأحقاف ، إلى موضع يقال له الشحر من أرض اليمن فنزل هناك ، ثم أدركه الموت فدفن بأرض حضرموت ، ويروى عن سيدنا علي بن أبي طالب أن قبر هود بحضرموت في كثيب أحمر.
قلت : كلام الخازن لا ندري إلى أي شيء استند فيه ، ثم هو مضطرب ، فأكثر المفسرين يجعلون الشحر من الأحقاف ، وهذا يفرق بينها وبين الأحقاف، ولو سلمنا أن هذا الكلام صحيح فإنه رد صارخ على من يزعم أنه في موضعه المشهور ، إذ يعقل كل من عرف حضرموت أن الشحر تبعد عن موضع القبر مئات الأميال ، فكيف نحتج بقول يثبت أن قبر هود في الشحر على صحة الدعوى بالموضع المزعوم ؟.
6- قال ( ) الإمام الشوكاني:
( وأخرج البخاري في تاريخه ، وابن جرير وابن عساكر عن علي بن أبي طالب – رضي الله عنه – قال: " قبر هود بحضرموت في كثيب أحمر عند رأسه سدرة ".
قلت: هو كذلك عند الشوكاني ( ) ولكن بعد هذه الرواية رواية أخرى تركها صاحبنا، لأنها تفسد عليه مغالطته، حيث قال الشوكاني بعد ذلك: " وأخرج ابن عساكر عن عثمان بن أبي عاتكة ، قال: قبلة مسجد دمشق قبر هود ".
ومع أن الروايتين لا يصح سندهما ولا ينطبق متنهما على موضع القبر المزعوم، إلا أن هذا المصنف وجد أن الرواية الأولى يمكن أن يغالط بها القارئ بينما الرواية الثانية لا يمكن أن تمر على أحد فأخفاها، وهذا هو الهوى ، نسأل الله أن يعصمنا منه، ولا غرابة فهذه هي طريقة المبتدعة في الاستدلال، يحتجون بالواهيات والموضوعات، ويلوون أعناق النصوص لتوافق هواهم ، ويردون ما يخالف هواهم ولو كان في الصحيحين أو أحدهما، وهذه الطائفة المبتدعة عندنا في حضرموت يطعنون في حديث الجارية الذي رواه مسلم في صحيحه لأنه يثبت أن الله في السماء على ما يليق بجلاله وكماله ، فيطعنون فيه لأنه صريح في الرد عليهم، وهم مع ذلك تراهم هنا يحتجون بالموضوعات والواهيات والحكايات التي لا زمام لها ولا خطام.
ولعلي أطلت في تتبعهم فيما نقلوه من كتب التفسير حتى لا يأتوا يوماً آخر فيقولوا للعامة: معنا أدلة غير ما ذكر، والله أعلم.
المبحث الرابع :
الروايات التاريخية في الموضوع :
لقد ذكر المروجون لهذه الزيارة عدداً من النقول التاريخية التي تخدم – في زعمهم – قولهم بوجود القبر في ذلك الموضع، وليس هناك شيء صريح في تحديده أبداً، وكثير من تلك النقول في الحقيقة معتمدة على ما ذكرنا بطلانه من الآثار المنسوبة علي بن أبي طالب رضي الله عنه، أو إلى ما ذكره الإخباريون القدامى الذين طُعن فيهم واتهموا بالكذب، كابن الكلبي وعبيد بن شرية الجرهمي والواقدي ونحوهم، وهذه النقول لا يمكن الاعتماد عليها وإثبات الأحكام الشرعية بها.
إن احتمال وجود قبر هود بحضرموت قائم وقوي، ولكن تحديد هذا الموضع هو الذي لا يمكن إثباته، وهنا ثلاثة من مشاهير مؤرخي حضرموت يصلون إلى هذه النتيجة.
أولهم: وهو معتمد عند الجميع وبالذات العلويين الذين يتزعمون الدعوة لزيارة قبر نبي الله هود في موضعه ذلك وهو علوي بن طاهر الحداد : حيث يلاحظ أن الكهف أو الكثيب المذكور في رواية علي غير موجود في المكان الذي يزعم أنه قبر هود، وأن احتمال أن يكون المقصود بتلك الرواية قبر هدون بدوعن وليس قبر هود، وقد مر نص كلامه من قبل.
الثاني: الأستاذ محمد عبد القادر بامطرف، فقد قال بالنص: " أما القبر الذي يعتقده بعض الحضارمة أنه قبر النبي هود، فهو في حقيقته مخالف للروايات الإخبارية القديمة، ومنها رواية الأصبغ والهمداني " ( ).
الثالث: المؤرخ المشهور الأستاذ سعيد عوض باوزير حيث يقول: " وقد سار النبي هود عليه السلام بعد هلاك قومه في دعوته التوحيدية إلى أن أدركته الوفاة في حضرموت، ولكن التاريخ لم يعين موضع هذا القبر، والقبر المعروف اليوم شرقي الوادي الرئيسي بحضرموت مثار للشك لأسباب متعددة، فضلاً عن أنه لم تقم أدلة تاريخية تحدد موضع القبر " ( )
أنظر صورة رقم 16 ص 164 :
المبحث الخامس:
اختلاف المفسرين في موضع القبر:
مما يؤكد عدم وجود دليل قطعي أو ظني صاح للاحتجاج به أن المؤرخين اختلفوا اختلافاً كبيراً في تعيين الموضع الذي دفن فيه هود ( عليه السلام ) ، فقد وردت أقوال كثيرة في تحديد الموضع الذي دفن فيه.
1- فمنها دمشق قبلي الجامع الأموي:
قال الحافظ ابن كثير في البداية والنهاية " في سياق قصة هود في آخرها وهو يذكر الاختلاف في موضع قبره " : " وقد قدمنا حج هود عليه السلام عند ذكر حج نوح عليه السلام ، وروي عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب أنه ذكر صفة قبر هود عليه السلام في بلاد اليمن ، وذكر آخرون أنه بدمشق ، وبجامعها مكان في حائطه القبلي يزعم بعض الناس أنه قبر هود عليه السلام والله أعلم" ( )
2- ومنهم من قال أنه بفلسطين:
قال عبد الوهاب النجار " في كتاب قصص الأنبياء : " ويقول أهل حضرموت : أن هوداً عليه السلام سكن حضرموت بعد هلاك عاد إلى أن مات، ودفن شرقي بلادهم على نحو مرحلتين من مدينة تريم قرب وادي برهوت، وقد ورد عن علي ( كرم الله وجهه ) أنه مدفون عند كثيب أحمر وعند رأسه سمر في حضرموت ، وأهل فلسطين يدعون أنه مدفون عندهم وقد بنوا له قبراً ، ويعملون له كل سنة مولداً ، وقول أهل حضرموت أقرب إلى المعقول لأنها متاخمة لبلاد عاد وهي الأحقاف دون فلسطين. ( )
3- ومنهم من قال أنه كان بمكة :
قال الشيخ حسن عبد الله باسلامة " في كتابه تاريخ الكعبة المعظمة " : " وروى العلامة أبو البقـاء محمد بن أحمد بن الضياء المكي العمري القرشي – المتوفى سنة 854 هـ – في كتابه ( البحر العميق ) عن محمد بن سابط قال: مات هود ونوح وصالح وشعيب بمكة فقبورهم بين زمزم والحجر، وكان النبي إذا هلكت أمته لحق بمكة يتعبـد فيها إلى أن يموت. أهـ.( )
4- ومنهم من قال أنه بظفار:
قال ابن بطوطة في رحلته الشهيرة وهو يتحدث عن المسجد الأموي بدمشق : ويقال إن الجدار القبلي منه وضعه نبي الله هود ( عليه السلام ) وأنه قبر به ، وقد رأيت على مقربة من مدينة ظفار باليمن بموضع يقال له الأحقاف بنية فيها قبر مكتوب عليه هذا قبر هود بن عابر صلى الله عليه وسلم.( )
5- ومنهم من قال : أن في العراق في وادي السلام قرب قبر علي بن أبي طالب ( رضي الله عنه هود وصالح ( عليهما السلام ) فقد ذكر ذلك محمد الشهيد في كتابه ( دليل الزائر إلى العتبات المقدسة في العراق ) ( ) وذكر كيف يزاران، وأورد صور كتب تحتها ( صورة مقامي هود وصالح عليهما السلام ).
فهذه كما ترى خمسة مواضع قيل إن بها قبر هود والسادس القبر الذي في حضرموت مع تشكيك بعض المؤرخين الحضارمة أن يكون في ذلك الموضع ، فإذا أضفنا هذا إلى ما سبق من عدم الإشارة إليه في القرآن، وعدم صحة الأحاديث الواردة فيه ، وعدم اتفاق المفسرين على شيء فيه نتج أنه لا يُعرف مكان محدد ثابت يبيح للباحث المنصف الجزم به.
وعلى ذلك فنحن نتوجه إلى مروجي خرافة زيارة هود بأن يتقوا الله وأن يتركوا المغالطة ، والإصرار على الباطل، وتكلف إقامة الحجج على إثبات ما يدعون، ولا يحملوا الناس على التعب والنصب والخسارة من جهة، وعلى الاعتقاد الباطل والابتداع في دين الله أو إحياء ما اندثر من البدع إن كان قصدهم القربة إلى الله حقاً، فطرق التقرب المشروع إلى الله واسعة ومضمونة النتائج لمن بحث عنها: { والذين جاهدوا فينا لهدينهم سبلنا } .
الفصل الثاني
بطلان ما استدلوا به من الكشف والإلهام على وجود قبر هود في الموضع المزعوم
المبحث الأول :
تعريف الكشف والإلهام:
يقول الجرجاني عن الكشف: " في اللغة : رفع الحجاب، وفي الاصطلاح : هو الاطلاع على ما وراء الحجاب من المعاني الغيبية والأمور الحقيقية وجوداً أو شهوداً " ( )
ويقول عن الإلهام : " ما يلقى في الروع بطريق الفيض ، وقيل الإلهام ما وقع في القلب من علم ، وهو يدعو إلى العمل من غير استدلال بالآية ، ولا نظر في حجة وهو ليس بحجة عند العلماء إلا عند الصوفيين" انتهى محل الغرض. ( )
هذا هو الكشف ، وذلك هو الإلهام، توصل إلى معرفة الحقائق – كما تزعم الصوفية – بدون الطرق التي جعلها الله سبلاً لمعرفتها، ولم يكن الالتفات والاهتمام بهما معروفاً عند السلف الصالح ولا عند العلماء المقتدى بهم في كل الأعصار والأمصار.
المبحث الثاني:
بيان أنه لا يحتج بالكشف عند علماء أهل السنة:
مر بك تعريف الكشف والإلهام ، وتبين مما مر أنه لا يمكن إقامة حجة ولا برهان على صحة دعوى من يدعي الكشف والإلهام إلا مجرد قوله، ولهذا رده العلماء ، ورفضوا الاستدلال به، قال ابن عبيد الله السقاف رحمه الله : " لو انفتح باب الاحتجاج به في الشريعة سهلت للمتاجرين بالدين الذريعة واتسع الخرق على الراقع ". ( ) من محاضرة مطبوعة للعلامة ابن عبيد الله . وقال الشوكاني في ( إرشاد الفحول ) ( ) بعد أن ذكر كلام الناس عن الإلهام واستدلال من استدل لثبوته، قال: " ثم على تقدير الاستدلال لثبوت الإلهام بمثل ما تقدم من الأدلة ، من أين لنا أن دعوى هذا الفرد لحصول الإلهام له صحيحة ؟ وما الدليل على أن قلبه من القلب التي ليست بموسوسة ولا بمتساهلة ؟! .
وصرح العلامة ابن حجر الهيتمي في الفتاوى الكبرى ( ) : " إن الأئمة مجمعون على أنه لا يعمل بالإلهام في الأحكام الشرعية كما صرح به حتى شراح المنهاج في أوائل الطهارة " ، والكشف والإلهام متقاربان في الحقيقة كما قال ابن عبيد الله : " وما أدراكم ما هو الإلهام ؟ هو شيء يثلج به القلب ، وينشرح به الصدر ، وهذا هو الكشف بعينه أو نوع منه " .( )
ولقد عول مروجو خرافة قبر هود على الكشف واستكثروا منه وصرحوا بالاعتماد عليه والاعتقاد بموجبه، قال العيدروس في كتابه بذل المجهود: " وهو محقق عند ذوي البصائر والمشاهدات من أرباب القلوب وأصحاب المكاشفات وقد رأوا هوداً عليه السلام وشاهدوه عياناً في اليقظة بعين الكشف ومشاهدة العيان في تلك البقعة الطاهرة الشريفة، والساعة المباركة المنيفة ، المعروفة عند الخاصة والعامة بالنفحات السابغة العميمة ، والبركات الشاملة العظيمة، وبمثابة هؤلاء المذكورين نحن زائرون ، ولقبره محققون ، ولقربة نايلون ، وللفضل الجزيل والأجر العظيم راجون" الخ .( )
وبهذا تعلم أن القوم مخالفون لإجماع الأئمة ، مجانبون لما عليه فقهاء الشافعية بل سائر علماء أهل السنة.
ولقد حاول أن يغالط سالم الشاطري في أجوبته المتعلقة بزيارة قبر هود – حاول أن يغالط حين ذكر أن الشوكاني عقد فصلاً في كتابه ( إرشاد الفحول ) وذكر أدلة القائلين بحجيته في الأمور التي لم ترد بدليل من الكتاب والسنة ، والتي لا يترتب عليها حلال أو حرام ، ولكن يستدل عليها بأنها موافقة للشرع.
أقول ما سبق أن قلته من قبل : إن هذا هو أسلوب الباطنية في التأويل والمغالطة ، وإلا فالشوكاني عقب عليها بقوله : " ثم على تقدير الاستدلال بثبوت الإلهام بمثل ما تقدم من الأدلة ، من أين لنا أن دعوى هذا الفرد لحصول الإلهام صحيحة ؟ وما الدليل على أن قلبه من القلوب التي ليست بموسوسة ولا بمتساهلة ؟! ( ).
فهل في كلام الشوكاني هذا أنه يؤيد من يقول بحجية الإلهام ؟! - اللهم لا.
المبحث الثالث:
نماذج من المكاشفات الزاعمة وجود القبر في موضعه المعروف:
1- النموذج الأول: ما حكاه العيدروس في ( بذل المجهود ) عن الفقيه المقدم محمد بن علي باعلوي أنه قال : " تخلفت عن زيارة قبر هود ( عليه السلام ) سنة من السنين ، فبينما أنا جالس في مكان متعال سقفه ، إذ دخل علي النبي هود يطأطئ رأسه كيلا يصيبه السقف فقال: يا شيخ أن لم تزرنا زرناك " ( )
هذا أحد نماذج الكشف الذي استدل به العيدروس على صحة وجود قبر نبي الله هود في ذلك الموضع ، فهل يصدق العقلاء مثل هذا الهراء ويجعلونه حجة يثبتون بها أحكاماً وعبادات لا دليل عليها من الشرع ، بل الشرع بخلافها ؟!.
2- النموذج الثاني: ما رواه الشيخ علوي بن الفقيه المقدم قال: " زرت النبي هوداً ( عليه السلام ) فلما وصلت وسوست في نفسي: هل هود في هذا المكان الذي يزوره الناس فيه أم لا ؟ فغصت فيه، ثم عدت بعد ساعة، وقد وجدت النبي هوداً ( عليه الصلاة والسلام ) في ذلك المكان ، وتحدثت معه ، فشرط علي النبي هود أن أصلي على النبي صلى الله عليه وسلم عنه معه، فقبلت الشرط " ( )
قلت: وهذا النموذج الثاني، ففي الأول هود عليه السلام هو الذي أتى إلى المكاشف، وفي هذا النموذج المكاشف هو الذي غاص في باطن القبر، فلقي هوداً عليه السلام وتحدث معه !! ونحن نلمح أن الرواية اشتملت على أمرين:
الأمر الأول: وسوسة ذلك الشيخ في صحة وجود القبر في ذلك المكان، فلو كان الأمر مجزوماً به مثبتاً لما وسوس به، وهذا اعتراف لا يقدر أحد أن ينكره، أن القوم مازالوا متشككين في صحة ما يزعمون من وجود القبر في ذلك المكان.
والأمر الثاني: فهو دعوى أنه غاص في ذلك الموضع ولقي هوداً وتحدث معه، ونحن نكذب ذلك ولا نصدقه، لاسيما وهذا الرجل مجرب عليه الكذب الذي لا يمتري فيه عاقل ، إذ روى عنه صاحب المشرع الروي أن الشيخ عبد الله باعباد سأل صاحب الترجمة ( علوي بن الفـقـيه المقدم ) عما ظهر له من المكاشفات بعد موت والده فقال: " ظهر لي ثلاث : أحيي وأميت بإذن الله ، وأقول للشيء كن فيكون ، وأعرف ما سيكون " فقال الشيخ عبد الله : " نرجو فيك أكثر من هذا " ( ) ، فهذا كلام لا شك في أنه كذب على الله، فإن كان هـو قاله فهو كذاب، ولا يجوز الأخذ بخبره في هذه الأمور الظاهرة ، فكيف في مثل هذه المكاشفات ؟
وإن كان قد كُذِبَ عليه، فإن هذا أيضاً جائز أنه مكذوب عليه، وفي كلا الحالين هو كذب لا يجوز روايته فضلاً عن الاحتجاج به.
3- النموذج الثالث: ما رواه العيدروس أيضاً عن الشيخ عبد الرحمن السقاف قال: " رأيت النبي هوداً (عليه السلام) في حجر، وبين يديه لوح وهو شاب، وشعر رأسه محاليل ( ) ، قال العيدروس: قلت لعل الحجر المذكور في كلام الشيخ ( رضي الله عنه ) هو الحجرة المتصدعة التي هي في أسفل القبر الشريف لأن الناس يخصونها بالتعظيم. ( )
قلت: لم يصرح المكاشف أرآه ميتاً أم حياً ؟ وما علاقة ذلك بإثبات القبر في ذلك الموضع ؟ لأن أهل الكشف - كما يزعمون – يرون الملائكة والأنبياء في كل مكان، فلو كان الكلام صدقاً ما ثبت به شيء، فكيف وهو إلى الكذب أقرب ؟!
4- النموذج الرابع: ما ذكره العيدروس عن سلطانة الزبيدية قال: " وقيل عند سيدتنا الشيخة سلطانة الزبيدية ’’ رضي الله عنها ‘‘ : هل النبي هود ( عليه السلام ) في المكان الذي يزوره الناس فيه أم لا ؟ فقالت: أشهد عني أنه في ذلك المكان، وأني رأيته وصافحته، فوجدته مسوراً بسوار من كعبه بسوار من فضة وسوار من ذهب " ( ) ، وهذا النموذج كذلك واضح البطلان فهذه الشيخة تزعم أن هوداً كان مسوراً بسوار ذهب وسوار فضة، وما أرى ذلك لائق بأنبياء الله، وتقول أنها صافحته ، مع أن مصافحة النساء للرجل حرام لا يجوز، فإن قال قائل: إن ذلك ليس في شريعة هود عليه السلام، قلنا : إن المذكورة تزعم أنها من كبار أولياء الله، وإنما يكون الولي ولياً بمتابعة النبي صلى الله عليه وسلم، وهديه معلوم في المنع من ذلك، فكيف ساغ لها أن تصافح الرجال وهي ما وصلت إلى ما وصلت إليه إلا بكمال المتابعة ؟!.
هذه أربعة نماذج من المكاشفات التي يزعمونها، وهي عند البحث والتدقيق لا تساوي شيئاً!!.
وبما مر يتضح غاية الوضوح أن القبر المزعوم الذي يزوره الناس ، ويخصونه مع البقعة التي هو فيها بالتقديس، ويلفقون له أكاذيب يوهمون بها العامة، أنه موضوع مقدس، وأنه قد جمعت فيه فضائل ومناقب، أن ذلك خرافة لا أساس لها من الصحة، وإنما تدل على جرأة القوم على الله، وعدم تورعهم في الكذب عليه، وأنهم يستحلون في سبيل الحصول على أغراضهم وأهوائهم كل وسيلة، وإن كانت من أشد المحرمات وأكبر الموبقات، وأنهم لا يوثق بهم في نقل ولا يركن إليهم في أمر من أمور العقيدة والسنة، والله المستعان.
الباب الثاني
هدي الإسلام في التعامل مع قبور الأنبياء والصالحين وهدي اليهود والنصارى
الفصل الأول
هدي الإسلام في التعامل مع القبور
المبحث الأول :
موازنة الإسلام بين مصالح الأحياء والأموات والحفاظ على كـرامة الأموات وعقيدة الأحياء:
من مزايا الإسلام شموله واكتماله ووسطيته واعتداله، وموازنته بين المصالح والمفاسد، بحيث لا يحث على جلب منفعة يترتب عليها حصول مفسدة، أو تفويت مصلحة أعظم منها ، ومن هذا المنطلق جاءت نظرته إلى مقابر المسلمين، فحفظت للأموات كرامتهم ، وشرعت ما فيه مصلحتهم، ونهت أن تقدس القبور تقديساً يؤدي إلى تعظيمها في نظر الأحياء وافتتـانهم بها، والاعتقاد في أصحابها ما لا يجوز اعتقاده إلا في الله.
فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن امتهان المقابر، بجعلها مواطن لقضاء الحاجة، وعن وطء القبور والجلوس عليها وعن كسر عظام الميت، وحذر علماء المسلمين وفقهاؤهم من نبش القبور لغير مصلحة تعود إلى الميت أو ضرورة تلجئ إلى ذلك، وأرشد الرسول صلى الله عليه وسلم الماشي بين القبور أن يخلع نعليه، وهذه الأمور فيها غاية الحفاظ على قبور المسلمين وغاية التكريم لأمواتهم، وحتى لا يؤدي تكريم أموات المسلمين والحفاظ عليهم إلى تقديسهم والغلو فيهم فقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عما يؤدي إلى ذلك.
فنهى عن الصلاة على القبور وإليها، ونهى عن اتخاذها مساجد، وعن تجصيصها والبناء عليها، والكتابة عليها، وأمر بتسوية القبور المشرفة التي ترفع فوق الحد الذي يسمح به الشرع، وقد عقل الصحابة والتابعون لهم بإحسان والأئمة المقتدى بهم ذلك، وحافظوا على ذلك الهَدي الصالح، والطريقة الرشيدة حتى نهاية القرون المفضلة، عندما آلت ولاية المسلمين إلى الروافض والباطنية، فغيروا وبدلوا ، وأماتوا سنة الرسول وأصحابه، ونشروا سنة اليهود والنصارى في بلاد المسلمين، وتبعهم على ذلك جهلة الحكام ومنحرفو المتصوفة، حتى شاع ذلك في بلاد المسلمين، وصار هو الغالب على كثير منها رغم تحذير العلماء وتقرير الفقهاء وصيحات الغيورين على سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم.
وإليك براهين ما أجملته لك في هذه المقدمة:
- أما نهيه عن قضاء الحاجة بين القبور وعن وطئها: فقد رواه ابن ماجه من حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لأن أمشي على جمرة أو سيف أو أخصف نعلي برجلي أحب إليّ من أن أمشي على قبر رجل مسلم، وما أبالي أوسط القبور قضيت حاجتي أو وسط السوق " . ( )
- وأما نهيه عن الجلوس عليها : فقد رواه مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لأن يجلس أحدكم على جمرة فتحرق ثيابه ، فتخلص إلى جلده خير له من يجلس على قبر مسلم " ( )
- وأما نهيه عن كسر عظم الأموات: فمن حديث عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن كسر المؤمن ميتاً مثل كسره حياً " ( )
- و أما النهي و التحذير من نبش القبور: فكما نقل شيخنا الألباني عن النووي في المجموع قال رحمه الله : ( وقال النووي في " المجموع " ( 5/ 303 ) ما مختصره : ( ولا يجوز نبش القبر لغير سبب شرعي باتفاق الأصحاب، ويجوز بالأسباب الشرعية كنحو ما سبق في المسألة {109} ومختصره : ( أنه يجوز نبش القبر إذا بلي وصار تراباً وحينئذ يجوز دفن غيره فيه، ويجوز زرع تلك الأرض وبناؤها وسائر وجوه الانتفاع والتصرف فيها باتفاق الأصحاب، وهذا كله إذا لم يبق للميت أثر من عظم وغيره ، ويختلف ذلك باختلاف البلاد و الأرض، و يعتمد فيه قول أهل الخبرة بها )( )
- و أما إرشاد النبي صلى الله عليه وسلم إلى خلع النعال عند المشي بين القبور: فقد رواه أبو داود وغيره من حديث بشير مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث طويل قال: وحانت من رسول الله صلى الله عليه وسلم نظرة فإذا رجل يمشي في القبور عليه نعلان، فقال: " يا صاحب السبتيتين ويحك ألق سبتيتيك " فنظر الرجل فلما عرف رسول الله صلى الله عليه وسلم خلعهما فرمى بهما " وحسنه الألباني هناك ( )
- وأما نهيه عن الصلاة على القبور وإليها: ففيما رواه مسلم من حديث أبي مرثد الغنوي رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " لا تصلوا إلى القبور ولا تجلسوا عليها " ( ) وفيما رواه أبو يعلي بإسناد صحيح كما قال الألباني رحمه الله من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم : " نهى أن يبنى على القبور أو يقعد عليها أو يصلى عليها " ( )
- وأما نهيه عن اتخاذها مساجد: ففي حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " اللهم لا تجعل قبري وثناً، لعن الله قوماً اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد " رواه أحمد وغيره بسند صحيح . ( )
وفي حديث عبد الله بن مسعود قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إن شرار الناس يوم القيامة من تدركهم الساعة وهم أحياء ، ومن يتخذون القبور مساجد " رواه ابن خزيمة .( )
ومنها حديث جندب عند مسلم أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت بخمس وهو يقول: " ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد ، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك " ( )
وسيأتي جملة من الأحاديث الناهية عن اتخاذ القبور مساجد ولعن من فعل ذلك ، في
الفصل الثاني من هذا الباب إن شاء الله .
- وأما نهيه عن البناء عليها وتجصيصها: ففي حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: " نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجصص القبر وأن يقعد عليه وأن يبنى عليه " .( )
المبحث الثاني :
إغفال الوحي لذكر قبـور الأنبياء والدلالة عليها:
سبق الحديث عن ذلك ونفيه ، وأحب هنا أن أؤكد ذلك وأبين شبهات حول الموضوع:
حيث ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه في قصة موسى وملك الموت، وكيف قبض موسى عليه السلام، قال أبو هريرة رضي الله عنه: " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لو كنت ثم لأريتكم قبره، إلى جانب الطريق عند الكثيب الأحمر" ( )
هذا الحديث استغله مروجو إحياء المشاهد ، فقال عبيدون في الدر المنضود ( ) : ومع ذلك فإن النبي في حادثة الإسراء والمعراج قد عرفهم، ووصف لهم قبر سيدنا موسى عليه السلام، وقال: " لو كنت هناك لأريتكم إياه " هو بنفسه عليه الصلاة والسلام يتولى تعريفهم بهذا الموطن المقدس المبارك من أجل ماذا ؟! من أجل إقامة الصلات والروابط بين المؤمنين وأنبيائهم ، والتأدب معهم وسلوك طريقتهم وزيارتهم في حياتهم وبعد مماتهم، وهو مقصد سامٍ سعت إليه شريعتنا، له أثر بين على القلوب، فالمرء يوم القيامة مع من أحب. كذا قال ، وكذب فيما قال، فرسول الله صلى الله عليه وسلم ما عرفهم موضع القبر وإنما أشار إلى معرفته بذلك، ولو كان فيه مصلحة للأمة لما تركه بذلك الإبهام، ولو كانت الإشارة إليه تعريفاً من النبي صلى الله عليه وسلم له وحثاً على زيارة ذلك القبر وإحيائه لما غفل عنه الصحابة ولما أغفلوه.
إن الواقع أن ما ذكره ذلك المتعالم الجاهل لم يخطر على بال الصحابة، ولذلك لم يثبت أن أحداً منهم جاء يبحث عن القبر مع مرورهم بتلك النواحي غزاة ومجاهدين وتجاراً ومسافرين لأغراض شتى، فلا يليق بهم أبداً أن يفهموا حث النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك وأن لذلك مقصداً